سورة يوسف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} بعد ما عاينْتُ منكم ما عاينت {حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله} أي ما أتوثق به من جهة الله عز وجل، وإنما جعله مَوثِقاً منه تعالى لأن تأكيدَ العهود به مأذونٌ فيه من جهته تعالى فهو إذن منه عز وجل {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} جوابُ القسم إذ المعنى حتى تحلِفوا بالله لتأتنني به {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلا أن تُغلبوا فلا تطيقوا به أو إلا أن تهلِكوا وأصلُه من إحاطة العدوِّ فإن مَنْ أحاط به العدوُّ فقد هلك غالباً وهو استئناءٌ من أعم الأحوال أو أعمِّ العلل على تأويل الكلامِ بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتُنني به ولا تمتنِعُنَّ منه في حال من الأحوال أو لعلة من العلل إلا حالَ الإحاطة بكم، ونظيرُه قولُهم: أقسمت عليك لَما فعلْتَ وإلا فعلتَ أي ما أريد منك إلا فعلَك، وقد جُوز الأولُ بلا تأويل أيضاً أي لتأتُنني به على كل حالٍ إلا حال الإحاطةِ بكم. وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيانُ به من الأفعال الممتدة الشاملةِ للأحوال على سبيل المعيةِ كما في قولك: لألزَمنّك إلا أن تُعطِيني حقي، ولم يكن عليه السلام يريد مقارنته على سبيل البدلِ لما عدا الحالِ المستثناة كما إذا قلت: صَلِّ إلا أن تكون محدِثاً بل مجرد تحققِه ووقوعِه من غير إخلال به كما في قولك: لأحُجنَّ العامَ إلا أن أُحصر فإن مرادَك إنما هو الإخبار بعدم منعِ ما سوى حالِ الإحصار عن الحج لا الإخبارُ بمقارنته لتلك الأحوالِ على سبيل البدلِ كما هو مرادُك في مثال الصلاة كأن اعتبارَ الأحوالِ معه من حيث عدمُ منعها منه، فآل المعنى إلى التأويل المذكور {فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} عهدهم من الله حسبما أراد يعقوبُ عليه السلام {قَالَ الله على مَا نَقُولُ} أي على ما قلنا في أثناء طلب الموْثِق وإيتائه من الجانبين. وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ لاستحضار صورتِه المؤدّي أي تثبتهم ومحافظتِهم على تذكّره ومراقبتِه {وَكِيلٌ} مطلعٌ رقيبٌ يريد به عرضَ ثقتِه بالله تعالى وحثَّهم على مراعاة ميثاقهم.


{وَقَالَ} ناصحاً لهم لمّا أزمع على إرسالهم جميعاً {الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ} مصر {مِن بَابٍ وَاحِدٍ} نهاهم عن ذلك حِذاراً من إصابة العين، فإنهم كانوا ذوي جمالٍ وشارةٍ حسنة وقد كانوا تجمّلوا في هذه الكرّة أكثرَ مما في المرة الأولى وقد اشتهروا في مصر بالكرامة والزلفى لدى الملِك بخلاف النَّوْبة الأولى فكانوا مَئِنّةً لدنوّ كل ناظر وطُموح كل طامح، وإصابةُ مُعْين بتقدير العزيز الحكيم ليست مما يُنكر وقد ورد عنه عليه السلام: «إن العينَ حق» وعنه عليه السلام: «إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القِدْرَ» وقد كان عليه السلام يعوّذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامّة ومن كل عين لامّة» وكان عليه السلام يقول: «كان أبوكما يعوّذ بها إسماعيلَ وإسحاقَ عليهم السلام» رواه البخاري في صحيحه وقد شهدت بذلك التجارِبُ.
ولمّا لم يكن عدمُ الدخول من باب واحد مستلزماً للدخول من أبواب متفرّقة وكان في دخولهم من بابين أو ثلاثةٍ بعضُ ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماعٍ مصحِّحٍ لوقوع المحذورِ قال: {وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} بياناً لِما المرادُ بالنهي وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزماً له إظهاراً لكمال العنايةِ وإيذاناً بأنه المرادُ بالأمر المذكور لا تحقيقاً لشيء آخر {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ} أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري {مّنَ الله مِن شَىْء} أي شيئاً مما قضى عليكم فإن الحذرَ لا يمنع القدَر ولم يرد به عليه السلام إلغاءَ الحذر بالمرة كيف لا وقد قال عز قائلاً: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} وقال: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} بل أراد بيانَ أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المرادَ لا محالة بل هو تديبرٌ في الجملة وإنما التأثيرُ وترتُّبُ المنفعةِ عليه من العزيز القدير وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانةٌ بالله تعالى وهربٌ منه إليه.
{إِنِ الحكم} مطلقاً {أَلاَ لِلَّهِ} لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء {عَلَيْهِ} لا على أحد سواه {تَوَكَّلْتُ} في كل ما آتي وأذر، وفيه دَلالةٌ على أن ترتيبَ الأسباب غيرُ مُخلَ بالتوكل {وَعَلَيْهِ} دون غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} جُمع بين الحرْفين في عطف الجملةِ على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص مقيَّداً بالواو عطف فعلٍ غيرِه من تخصيص التوكل بالله عز وجل على فعل نفسه وبإلقاء سببية فعلِه لكونه نبياً لفعل غيره من المقتدين به فيدخل فيهم بنوه دخولاً أولياً وفيه ما لا يخفى من حسن هدايتِهم وإرشادِهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله عز وجل غيرَ مغترّين بما وصاهم من التدبير.


{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} من الأبواب المتفرقة من البلد، قيل: كانت له أربعةُ أبوابٍ فدخلوا منها وإنما اكتُفى بذكره لاستلزامه الانتهاءَ عما نُهوا عنه {مَا كَانَ} ذلك الدخولُ {يُغْنِى} فيما سيأتي عند وقوعِ ما وقع {عَنْهُمْ} عن الداخلين لأن المقصودَ به استدفاعُ الضرر عنهم، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقيق المقارنةِ الواجبةِ بين جوابِ لمّا ومدخولِه فإن عدمَ الإغناءِ بالفعل إنما يتحقق عند نزولِ المحذورِ لا وقت الدخول، وإنما المتحققُ حينئذ ما أفاده الجمعُ المذكور من عدم كونِ الدخولِ المذكورِ مغْنياً فيما سيأتي فتأمل {مِنَ الله} من جهته {مِن شَىْءٍ} أي شيئاً مما قضاه مع كونه مَظِنةً لذلك في بادي الرأي حيث وصّاهم به يعقوبُ عليه السلام وعمِلوا بموجبه واثقين بجدواه من فضل الله تعالى، فليس المرادُ بيانَ سببية الدخولِ المذكور لعدم الإغناءِ كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} فإن مجيءَ النذير هناك سببٌ لزيادة نفورِهم بل بيانُ عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعةً في بادي الرأي كما في قولك: حلف أن يُعطيَني حقي عند حلولِ الأجلِ فلما حل لم يُعطني شيئاً، فإن المرادَ بيانُ عدمِ سببية حلولِ الأجلِ للإعطاء مع كونها مرجُوّةً بموجب الحلِف لا بيانُ سببيته لعدم الإعطاءِ فالمآلُ بيانُ عدمِ ترتبِ الغرضِ المقصود على التدبير المعهودِ مع كونه مرجوَّ الوجود لا بيانُ ترتبِ عدمِه عليه، ويجوز أن يراد ذلك أيضاً بناءً على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيّتِه من أنه لا يُغني عنهم من الله شيئاً فكأنه قيل: ولمّا فعلوا ما وصاهم به لم يُفِدْ ذلك شيئاً ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقُوا ما لقُوا فيكون من باب وقوعِ المتوقع فتأمل.
{إِلاَّ حَاجَةً} استثناءٌ منقطعٌ أي ولكنْ حاجةً وحرازةً كائنة {فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} أي أظهرها ووصّاهم بها دفعاً للخاطرة غيرَ معتقدٍ أن للتدبير تأثيراً في تغيير التقديرِ، وقد جعل ضميرُ الفاعل في قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخولَ قضى حاجةً في نفس يعقوبَ وهي إرادتُه أن يكون دخولُهم من أبواب متفرقةٍ، فالمعنى ما كان ذلك الدخولُ يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئاً ولكن قضى حاجةً حاصلةً في نفس يعقوبَ بوقوعه حسب إرادتِه فالاستثناءُ منقطعٌ أيضاً وعلى التقديرين لم يكن للتدبير فائدةٌ سوى دفعِ الخاطرة، وأما إصابةُ العين فإنما لم تقع لكونها غيرَ مقدّرةٍ عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقضيّةً عليهم {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} جليلٍ {لّمَا عَلَّمْنَاهُ} لتعليمنا إياه بالوحي ونصْبِ الأدلةِ لم يعتقِدْ أن الحذرَ يدفع القَدر وأن التديبرَ له حظٌ من التأثير حتى يتبينَ الخللُ في رأيه عند تخلفِ الأثر أو حيث بتّ القولَ بأنه لا يغني عنهم من الله شيئاً فكان الحالُ كما قال. وفي تأكيد الجملةِ بإن واللامِ وتنكيرِ العلْم وتعليلِه بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدلالة على جلالة شأنِ يعقوبَ عليه السلام وعلوِّ مرتبة علمِه وفخامته ما لا يخفى {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أسرارَ القدر ويزعمُون أنه يغني عنه الحذرُ، وأما ما يقال من أن المعنى لا يعلمون إيجابَ الحذر مع أنه لا يغني شيئاً من القدر فيأباه مقام بيان تخلّفِ المطلوب عن المبادىء.

10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17